الأحد، 9 يناير 2011

تفجير الإسكندرية.. معا للتغيير

. الأحد، 9 يناير 2011








لا تتحدث هذه المقالة عن الأطراف المحتملة التي ارتكبت جريمة انفجار كنيسة القديسيْن بالإسكندرية في الساعة الأولى من عام 2011، ولا تقدم البراهين على أن هذا العمل الإجرامي لا يمت بصلة إلى الإسلام، أو أنه يخترق أبجديات حقوق الإنسان. إن ما تهتم به المقالة هو الأسباب والأوضاع التي هيأت المجال العام في مصر لهذا الاحتقان الطائفي والاختراقات الأمنية.
ضعف الدولة وفشل الحكومةبالطبع لا يمكن اختزال أسباب الجريمة في عنصر واحد. لكن هناك حقيقة تقول إن الاحتقان الطائفي لا ينمو ويستفحل أمره إلا في الدول الضعيفة التي تتحكم فيها حكومات لا تعمل إلا لمصالح فئات محددة. لهذا فالعامل الجوهري -في اعتقادي- هو ضعف الدولة ومؤسساتها وفشل حكوماتها في أداء وظائفها.
أما العوامل الأخرى التي يحلو للبعض البدء منها لتفسير ما حدث -كالخطاب السلفي الأخير المناهض للكنيسة، والخطاب الديني بشكل عام في المنابر والفضائيات، وتصاعد الدور السياسي للكنيسة الأرثوذكسية، وتحركات أقباط المهجر- فهي في اعتقادي نتيجة لذلك العامل الجوهري.
"
بعض المسلمين يربون أبناءهم على عدم التحدث أو الاختلاط بالمسيحيين، كما أن من المسيحيين من يرون أن المسلمين ضيوف على مصر، ومنهم من أعلن استعداده للشهادة لمنع تفتيش الأديرة!
"
ضعف الدولة أدى إلى نتائج سلبية كثيرة، أولها انتشار ثقافة إقصائية ترى الأمور باللونين الأبيض والأسود، تشترك في ترويجها وسائل إعلام غير منضبطة تفتح المجال أمام محترفي الشهرة والنجومية أو ضيقي الأفق، وتغرز قيما هدامة وسلبية في كثير من الحالات. كما يسهم في نشر هذه الثقافة النظام التعليمي الضعيف الذي يخرج أجيالا أحادية التفكير، لا تمتلك أدنى مقومات الانتماء والوطنية والتسامح.
هذا بجانب أن ضعف الدولة ومؤسساتها الدينية، وعلى الأخص مؤسسة الأزهر، أدى إلى خلو المجال العام من خطاب ديني عصري، ومن ثم إفساح المجال أمام شيوع خطاب ديني إقصائي لا يصلح حتى للعصور الوسطى.
وقد أنتجت هذه الثقافة سلوكا كان غريبا عن المجتمع المصري حتى سنوات قليلة خلت، فبعض المسلمين يربون أبناءهم على عدم التحدث أو الاختلاط بالمسيحيين، كما أن من المسيحيين من يرون أن المسلمين ضيوف على مصر، ومنهم من أعلن استعداده للشهادة لمنع تفتيش الأديرة!.
الدور السياسي للكنيسةولعل من أبرز نتائج ضعف الدولة هو قيام الكنيسة الأرثوذكسية، منذ مطلع السبعينيات، بدور سياسي في المجال العام للدولة المصرية بعد أن حافظت لقرون على وظيفتها الأصلية، وهي الوظيفة الروحية. لقد ظل المصريون –المسيحيون والمسلمون واليهود– يمارسون العمل السياسي من خلال مؤسسات سياسية ومدنية كالأحزاب والنقابات حتى مطلع السبعينيات، ويكفي هنا التذكير بالتحام المصريين جميعا ضد الإنجليز ونضالهم معا من أجل الاستقلال، وتولي أقباط مناصب رفيعة في الدولة قبل عام 1952، منها منصب رئيس الوزراء.
واليوم تصاعد النفوذ السياسي للكنيسة داخل الدولة وصارت الحكومة تتعامل معها بعيدا عن القانون، وكأن الكنيسة دولة داخل الدولة. ومارست الكنيسة عمليات ابتزاز تجاه الدولة، وتطاول بعض رؤوسها على الدولة وعلى القرآن، ثم كان تعنت الكنيسة في مسألة احتجاز السيدتين اللتين تردد أنهما اعتنقا الإسلام وسلمتهما أجهزة الأمن للكنيسة، كما لام بعض المسيحيين الكنيسة لدفعها المسيحيين إلى مصادمات مع الشرطة في أحداث العمرانية في 24 نوفمبر/تشرين الثاني. ولا ندري ما هو تفسير إفراج النائب العام بعد ثلاثة أيام من تفجير الإسكندرية عن 23 قبطيا من المحتجزين على خلفية تلك المصادمات.
ومع ضعف الدولة ومؤسساتها وحرص النظام على استمراره، استخدم الأمن لتأمين الحكومة والنظام وقمع المعارضين، واحتواء الأحزاب والنقابات وكافة القوى الوطنية، بدلا من الانشغال بوظيفته الأسمى والأرفع، وهي أمن المجتمع بكافة فئاته وطبقاته ومؤسساته.
"
اليوم تصاعد النفوذ السياسي للكنيسة داخل الدولة، وصارت الحكومة تتعامل معها بعيدا عن القانون، وكأن الكنيسة دولة داخل الدولة, ومارست عمليات ابتزاز وتطاول على الدولة
"
والأخطر أنه كلما ضعفت الدولة، ازداد ميل الحكومة نحو حسم القضايا والمشكلات بالخيارات الأمنية. هكذا سارت الأمور مع المسيحيين ومع الإخوان، بل ومع المعارضين وأساتذة الجامعات. الدول الحديثة لا تستخدم الأمن إلا لضبط الأمن الجنائي، وليس لقمع المعارضين أو للتعامل مع الخلافات السياسية والفكرية.
هذه الأوضاع السيئة هي التي أدخلت البلاد في صفقات مشبوهة بين الحكومة والكنيسة على حساب القانون والمواطنة، الأمر الذي أغضب بدوره فئات أخرى ودفعها للخروج في مظاهرات ضد الكنيسة، وهذه فئات ما تظاهرت قط من قبل برغم كل المصائب التي مرت بها مصر من غلاء واستبداد وتبعية خارجية، وتزوير انتخابات واختراقات إسرائيلية. وأقصد هنا هبة التيار السلفي ومظاهراته ضد مسألة احتجاز السيدات المصريات في الكنيسة.
الاختراق الخارجي للدولةوالأخطر أن ضعف الدولة فتح المجتمع أمام الاختراق الخارجي لزرع بذور فتنة طائفية، إلى الحد الذي لم نسمع معه أي تعليق من مسؤول واحد على تصريح الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) الجنرال عاموس يادلين، الذي نشرته صحف القاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
جاء في التصريح: "لقد تطور العمل في مصر حسب الخطط المرسومة منذ عام 1979. فقد أحدثنا اختراقات سياسية وأمنية واقتصادية في أكثر من موقع، ونجحنا في تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي والاجتماعي لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائما ومنقسمة إلى أكثر من شطر، لتعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية، ولكي يعجز أي نظام يأتي بعد حسنى مبارك عن معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشي في هذا البلد".
صحيح أن الدول تتآمر على بعضها البعض وتحاول اختراق الخصم وتفتيت وحدته، لكنه يجب ألا نلوم الآخر بقدر ما نلوم أنفسنا، فضعفنا في الداخل هو الذي سمح لدوائر أجنبية باختراق أمننا القومي، وسمح لها باستخدام البعض في الداخل والخارج لتحقيق مصالح تلك الدوائر، وعلى رأسها إنهاك مصر وإشغالها بقضايا محلية وبفتنة طائفية تمنعها من استعادة دورها الحضاري في المنطقة.
وتزامن كل هذا مع فشل آخر في تنفيذ برامج تنمية اقتصادية تصل ثمارها لكل المصريين، وفشل في صنع سياسة خارجية تدافع فعلا عن مصالح مصر. وانشغلت مصر عما حدث ويحدث في دول عربية شقيقة، ولم تتعلم دروس الفتنة بين المسلمين والمسيحيين في لبنان والسودان ونيجيريا، وأبعاد الخصام بين السنة والشيعة في العراق وباكستان.
فصل الكنيسة والأمن عن الدولةلا بد من أن تنتج المحن والمواقف العصيبة إرادة عمل مشتركة لمواجهة تداعيات الحادث. ومن هنا فالحل يجب أن يبدأ من جذور المشكلة وليس من أعراضها.
ولهذا، أطالب بفصل الكنيسة عن الدولة، ورفع يد الدولة عن الأزهر، وأطالب بفصل الأمن عن الدولة، وفصل الحكومة عن الدولة.
"
يجب على الكنيسة أن تكف عن دورها السياسي، وتعود إلى دورها الروحي في إرشاد المسيحيين, والأزهر لا بد من أن يُحرر من قبضة الحكومة ليقوم بدوره الديني في إنتاج خطاب ديني عصري
"
فيجب عدم تصوير الحل على أننا ننادي بدولة مدنية تجاه الدولة الدينية. فالدولة إما أن تكون دولة أو لا تكون. والحكم الديني الذي ظهر في أوروبا لم يشكل دولا بالمفهوم الشائع الآن، كما أن الخبرة الإسلامية لم تشهد مثل ذلك النوع من الحكم في الأساس.
ما أقصده هنا هو أننا نرى الحل في دولة المؤسسات الحديثة التي لا تعادي الدين ولا تقصيه كمرجعية عليا لمن شاء، لأن الدين مكون أساسي من مكونات ثقافة المصريين.. نريد دولة لا تعمل على تديين المجال العام أو استغلال الدين في تحقيق مصالح بعيدة كل البعد عن الدين.
دولة تستند إلى القانون والمواطنة، وتعمل مؤسساتها وحكوماتها من أجل مصالح كل فئات وطبقات المجتمع، وتتم فيها مناقشة المشكلات المختلفة للمسلمين والمسيحيين –ومنها مسألة التمييز في الوظائف وبناء دور العبادة والأحوال الشخصية- داخل مؤسسات الدولة، استنادا إلى القانون وإلى قيم المواطنة والكفاءة، وبعيدا عن نظام الحصص التي قد تزرع الطائفية وتعمقها.
يجب عدم تصور أن الحل يبدأ من القضاء على الخطاب الديني القائم، إذ يجب عدم تحميل الحالة الدينية في مصر مسؤولية ما حدث، ففي اعتقادي الدين والمتدينون هم ضحية الحكومة وسياساتها، كما أن الخطاب الديني الإقصائي في الجانبين المسيحي والإسلامي هو نتاج طبيعي لضعف الدولة ومؤسساتها بالشكل التي تحدثت عنه سابقا.
هو عَرَضٌ لمرض وليس المرض ذاته. إن تصويب مسار الخطاب الديني يحتاج إلى وقت ممتد وجهد مستمر، وإلى مؤسسات واعية في مجال الثقافة والتعليم والتدريب، ولن تتوفر هذه المتطلبات إلا في دولة القانون والمؤسسات.
أما الكنيسة فيجب أن تكف عن دورها السياسي، وتعود إلى دورها الروحي في إرشاد المسيحيين. والأزهر لا بد من أن يُحرر من قبضة الحكومة ليقوم بدوره الديني في إنتاج خطاب ديني عصري، بدلا من ترك الساحة لأنصاف المتعلمين والمتعصبين في الفضائيات وعلى منابر المساجد، ولا بد من أن يمارس الأزهر وظيفته الأصلية في إنتاج معرفة إسلامية عصرية وتخريج دعاة مستنيرين.
إن غضب المصريين -المسيحيين والمسلمين- لابد أن يتجه ليس نحو المناداة بتشريع قانون هنا أو هناك، أو مناشدة الحكومة التوقف عن التمييز في الوظائف، إذ لن يجدي كل هذا، فسياسات الحكومة هي التي خلقت هذه المشكلات، وبالتالي فالحل هو في التحام كل المصريين وتركيز مطالبهم على وضع دستور ديمقراطي جديد يقوم على المواطنة والمساواة والتعددية السياسية، دستور يمهد الطريق لانتخابات حقيقية تنتج حكومة وطنية منتخبة ومسؤولة. هذا النوع من الحكومات هو وحده القادر على التصدي للمشكلات القائمة وللاختراقات الخارجية.
لا بد من أن يتجه غضب المصريين ليس إلى إقالة وزير هنا أو مسؤول هناك، وإنما إلى المطالبة بتنحي الحزب الحاكم ودخوله في حكومة إنقاذ وطني مع كافة القوى الوطنية الأخرى، لفترة انتقالية يتم خلالها تمهيد الطريق لتشكيل جمعية وطنية تأسيسية، تتولى مهمة إعداد دستور ديمقراطي توافقي، يقوم على نظام سياسي برلماني ومفهوم حقيقي للمواطنة وتعددية سياسية وحزبية حقيقية، وقانون انتخابي قائم على القائمة النسبية.
"
لا بد من أن يتجه غضب المصريين إلى المطالبة بتنحي الحزب الحاكم ودخوله في حكومة إنقاذ وطني مع كافة القوى الوطنية الأخرى لفترة انتقالية يتم خلالها الإعداد لدستور ديمقراطي توافقي
"
والعمل العام في دولة المؤسسات لا بد من أن يمارس في إطار الأحزاب السياسية والمجتمع المدني وليس في الكنيسة أو المسجد، وبضوابط كثيرة. ولا بد من أن يتجه غضبنا إلى المطالبة بحرية تكوين الأحزاب بأي مرجعيات كانت، طالما أنها تحترم الدستور والدولة والتداول السلمي على السلطة ولا تحتكر الدين، مع وضع ضمانات تحول دون احتكار فئات أو أسر معينة لهذه الأحزاب، وقد يكون منها ضرورة وجود عدد من الأقباط والنساء والشباب في الهيئات العليا وفي أماكن متقدمة في القوائم الانتخابية لكل حزب.
دولة المؤسسات تقتضي أيضا فصل الحكومة والنظام ومؤسساته المختلفة بما فيها مؤسسة الأمن عن الدولة. لا يعرف الكثيرون أن الأصل هو أن الحكومة ليست هي الدولة حتى يحتكرها الحزب الحاكم، ويعبث بها وبمؤسساتها الوطنية وبمستقبلها على النحو القائم، وإنما هي مؤسسة واحدة من مؤسسات الدولة التي على الأمن حمايتها.
كما لا يعرف الكثيرون أن مؤسسة الأمن مؤسسة مدنية من المؤسسات الوطنية للدولة، وليست من أدوات الحكومة أو النظام حتى يتم الزج بها في خصومات مع المسلمين والمسيحيين، وإشغالها بقضايا وخلافات سياسية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق