الاثنين، 10 يناير 2011

أجراس المحبة وأقراصها – فهمي هويدي

. الاثنين، 10 يناير 2011



لا تطمئننا كثيرا أجراس المحبة التي يتردد رنينها في الفضاء المصري منذ وقعت فاجعة الإسكندرية منذ عشرة أيام،
ذلك أن أخشى ما أخشاه أن نكتفي بالرنين، معتبرين أننا أدينا ما علينا لينصرف بعد ذلك كل إلى حال سبيله.

بطبيعة الحال فليس لدى أي اعتراض على مشاعر المودة التي أبديت، ولدي استعداد لأن اعتبرها صادقة ونابعة من القلب،
لكن اعتراضي ينصب على أمرين،

أولهما أن نكتفي بإطلاق تلك المشاعر، بحيث لا يختلف موقفنا عن أولئك الذين توافدوا على سرادق العزاء ذات مساء لكي يقوموا بالواجب لبعض الوقت، ثم ينفضون بعد ذلك لينشغل كل واحد بأمره الخاص،

الأمر الثاني أن تظل أبصارنا متجهة نحو قضايا التعصب والتطرف والمطالب القبطية، ولا نتطرق إلى شيء من المناخ أو التربة التي أفرزت هذه الأمور وعقَّدتها.

لم أفهم مثلا، لماذا لم ننتبه إلى الجهد الذي بذل طوال السنوات الماضية لتفكيك مصر وإضعاف وشائجها وحصاناتها، ومن ثم تجريدها من المناعة التي تمكنها من الصمود أمام تغول السموم الفكرية والثقافية.

إن بعض الجهابذة ما برحوا يلحون على فكرة "الدولة المدنية" كحل للإشكال، وكان توظيفهم للفكرة واضحا في وضع ما هو مدني مقابل ما هو ديني. بمعنى أن مرادهم بات محصورا في تحدي الديني بالمدني، ووضعهم موضع التضاد الذي يراد له أن ينتهي بإقصاء الديني وهزيمته. وهي فكرة خائبة ومغلوطة علميا وسياسيا.

فليس صحيحا أن المدني نقيض للديني، ولا علاقة لما هو مدني بحضور الدين أو العقيدة، ولكن فكرة المجتمع المدني نشأت أصلا لتحدى سلطة الكنيسة مستهدفة الخلاص من استبدادها، وإدارة المجتمع من خلال منابره الأصلية والمؤسسات التي تمثل الناس ولا تمثل سلطة الكنيسة أو حتى سلطة الملك.

وفي تعريفات علماء الاجتماع، فليست وظيفة المدني إقصاء الديني، وإنما استثمار قيمه الإيجابية لخدمة الناس والنهوض بالمجتمع.

تمثل خيبة الفكرة والتغليظ أيضا في أن المتحدثين عن المجتمع المدني تجاهلوا حقيقة أنه لا تقوم له قائمة إلا في مجتمع ديمقراطي يرتفع فيه سقف الحرية، ويكون للناس فيه حضورهم الفاعل، متمثلا في النقابات والأحزاب والمنظمات الأهلية، إلى جانب المؤسسات المستقلة الأخرى كالقضاء والمجالس النيابية والبلدية،

لم يملك أحد من أولئك الجهابذة شجاعة الإعلان عن أن قضية الديمقراطية ضرورية لقيام المجتمع المدني، لأن ذلك المطلب موجه إلى النظام القائم.

وهذا الإغفال ليس بريئا ويتعذر افتراض السهو فيه، لأن الذين استحضروا فكرة "المدني" لم يشغلوا أنفسهم بالديمقراطية أو بمشاركة المجتمع في صياغة حاضرة ومستقبلة، ولكنهم ظلوا مهجوسين بفكرة إقصاء الديني بالدرجة الأولى. إن شئت فقل إنهم شغلوا بمراراتهم وتصفية حساباتهم بأكثر من انشغالهم بعافية المجتمع أو مستقبله.

لقد ظلت "أجراس المحبة" تلح كثيرا على فكرة التسامح، الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل عن حضور تلك القيمة في الواقع، خصوصا في سلوك الحكومة والنموذج الذي تقدمه، ولأن نموذج الانتخابات التشريعية لا يزال ماثلا في أذهاننا، فإننا إذا استحضرنا تفاصيله ونتائجه فسنكتشف أن الحكومة والحزب الحاكم من ورائها قدما لنا في الانتخابات درسا في اللاتسامح والقمع، بحيث صودر "الآخر" وسحق تماما بمنتهي القسوة والفظاظة.

ومن حق أي أحد في هذه الحالة، وفي حالات أخرى مماثلة وكثيرة، أن يتساءل:
لماذا نطالب بالتسامح من جانبنا. في حين أن ممارسات الحكومة -خصوصا أجهزتها الأمنية- لا أثر فيها لأي تسامح مع المواطنين.

بل إنها في بعض الأحيان تبدى تسامحا مع الأجانب والغرباء، ولا يخطر على بالها أن تعبر عنه مع المواطنين
(هل تذكر حادثة زميلنا مجدي حسين الذي ذهب ليتضامن مع غزة عبر أحد الأنفاق، فسجن ثلاث سنوات، وحين فعلها صحفي إسرائيلي وجاء إلى سيناء، فإنه سلم إلى حكومة بلاده في ذات الأسبوع).

الذي حدث مع التسامح تكرر مع قيمة المواطنة، التي ذكرت أمس أن السلطة حين أرادت تعطي انطباعا بالدفاع عنها فإنها أضافت المصطلح إلى نص المادة الأولى من الدستور، مكررة معنى مذكورا بطريقة أفضل في المادة 40 منه. وبعد ذلك التدخل اللغوي ظلت المواطنة شعارا معلقا في الهواء، ولم نر له أثرا على أرض الواقع.

إن أجراس المحبة تحولت في حقيقة الأمر إلى أقراص للمحبة مهمتها مقصورة على التسكين وامتصاص الغضب،

وما لم نفتح الملفات الكبيرة، ونملك شجاعة التصدى لأصل الداء الذي ضرب مصر كلها، متمثلا في تغييب الديمقراطية وإهدار قيم القانون والتسامح والمواطنة وغيرها من أعمدة العيش المشترك. فإن صوت الأجراس سيذوي بمضي الوقت، ولن يكون له صدى يذكر، وسنخرج من الفاجعة بمثل ما دخلنا فيها بالضبط.
.....................

0 التعليقات:

إرسال تعليق